خاطرة: بين الأمس واليوم …

دلال عيسى
ميسيساجا \
أجلس على الأرض … الأوراق مبعثرة من حولي في كل مكان … المشهد أقرب للمشاهد الدرامية التي تقوم فيها البطلة بإفراغ محتويات الأدراج بحثاً عن ورقة الزواج العرفي كي تثبت بها نَسَبَ الجنين الذي تحمله في أحشائها ، فتكتشف أن البطل الوغد قد قام بسرقتها !!!
أُقلّب في مجموعة الأوراق بحثاً عن ورقة بعينها … فلا أجدها !!! ليتماشى الموقف برمّته مع قانون ميرفي السادس عشر» أي شيء تضعه في مكان أمين ، لن تجده أبد اًثانية»!!!
أجُول ببصري ثانية بين الأوراق المتناثرة أرضاً لتقع عيناي على دفترٍ مدرسيّ قديم لي يعود لتسعينيات القرن الماضي!!!

أُقلّب صفحاته ، فيحملني الحنين عبرها إلى ماضٍ بعيد وزمن قد ولّى و فات .
حاشية الدفتر مسطرة بقلم الرصاص بخطين رفيعين متوازيين … عنوان الدرس (كيف يعمل الهاتف) مروّس بالقلم الأحمر …
الأسئلة والأجوبة بالقلم الأزرق …
والرسوم البيانية والتوضيحية بقلم الرصاص …
جماليّة الخط وجودته ( والذي جاء حصيلة نسخ عشرات الدروس والنصوص مئات المرات ،مصحوباً بآلام الرقبة وتنميلفي أطراف الأصابع لتحسين نوعه وتجويده على حد زعم المعلمة ) لا بأس به !!!
سؤال : إشرح مع الرسم تركيب وعمل سماعة الهاتف وبيّن كيفية توصيلها مع الميكروفون الحُبَيبي في دائرة الكهرباء ؟!
أفتش في زوايا الذاكرة … أبحث في الأطراف … في الحواشي …
أذهب إلى أبعد من ذلك في البحث .. أذهب إلى ما وراء الذاكرة .. علّني أتذكر أي شيء حتى لو كان باهتاً عن كيفية عمل سماعة الهاتف … لا أتذكر شيئاً !!!
وكيف أتذكر ؟! وما يعنيني أصلاً كيف تعمل سماعة الهاتف !!! وما الجدوى من معرفة كيفية عمل السماعة ؟! اذا كان كلما درسته قد تبخّر من دماغي بمجرد خروجي من قاعة الإمتحان ؟!!
الهاتف الأرضي في ذلك الوقت كان من الرفاهيات غير المتاحة للجميع!!!
علاقتي بالهاتف آنذاك لم تتعدى الهاتف الطفولي المصنوع من علبتين من المعدن أو البلاستيك موصولتين بخيط منالصوف الملون !!!
ورقم الهاتف الوحيد الذي أحفظه .. رقم عصمت (شويكار)في مسرحية سك على بناتك 810660 !!!
وبالطبع أعرف من هو مخترع الهاتف وذلك نتيجة لمطالعتي في سن الطفولة لسلاسل الأطفال التي تتناول سيرة المخترعين واختراعاتهم !!!
تصفحت الدفتر أكثر وأكثر وتجولت بين أوراقه فلم أخرج بأي فائدة منه ومما كان يتم تدريسه لنا من مواد في المناهجالمدرسية … ليحضرني قول الكاتب الساخر (مارون عبود) «دخلت الجامعة وأنا جاهل بلا شهادة … وتخرجت منها وأناجاهل صاحب شهادة»!!!
منذ ما يقارب الأسبوع هاتفتني معلمة ابنتي – وبالمناسبة لا يعنيني أي موجات حملت صوتها لي ليصلني عبر الأثير – لتخبرني ان ابنتي تغيبت (online) عن حصة التدبير المنزلي وعليها في الغد حضور الحصة وعمل الوصفة المقررة
(cake in a mug) لتستطيع تقييم ابنتي لإعطائها العلامة المناسبة .
الساعة الثامنة صباحاً … والتجهيزات في مطبخي على قدم وساق لصنع (cake in a mug) وصوت المعلمة يأتي عبرجهاز الكمبيوتر مصحوباً بالصورة لإعطاء التوجيهات والنصائح للتلاميذ !!!
أجلس بعيداً (كي لا تراني المعلمة عبر الكاميرا) أراقب ابنتي وهي تعيث فساداً في مطبخي وقد استعملت نصف ما أملك من أدوات لعمل الوصفة !!!
وبعد ساعة من الحماس والعمل المتواصل …يأتي صوت المعلمة من بعيد الخليط جاهز … ضعوا ال(mug) في الميكرويف لمدة دقيقة ونصف فقط !!!
بيب .. بيب .. بيب .. يعلن الميكرويف انتهاء الدقيقة والنصف .. الكيك جاهز !! يا لسهولة الحياة وروعتها !!
تنادي المعلمة التلاميذ بالترتيب … يقوم كل تلميذ بتقريب ال(mug) من الكاميرا لتراه المعلمة وتقيّم العمل … رائع … (good job kids) !!!
أحقاً رائع !!! هذا المزيج الرخوي اللزج الأشبه بالقيء رائع !!! أعتقد سيكون لكِ رأياً مغايراً لو تذوقتِ ما صنعته ابنتي!!!
انتهى الأمر بالخليط أو ما يسمى بالكيك في الزبالة … أما ابنتي فقالت أن وصفة المعلمة غير جيدة وتعاني من خلل مافي المقادير … وأنها ستستعين بجوجل واليوتيوب في صنع الوصفة القادمة !!!
أعتقد في غضون سنوات قليلة ….سيتم فيها تحييد المعلم وتقليص دوره … وربما تغلق المدارس أبوابها ويتلقى الطلاب تعليمهم من منازلهم !!
وستنقرض الدفاتر والأقلام … أما الخط البشري ففي زوال وقد تنحصر استعمالاته في أضيق الحدود …
من يدري لعلّ ما نراه اليوم غير معقول … قد يكون معقولاً جداً غداً !!!
لم أعد أعلم هل أرثي لحال جيلي الذي عانى من منظومة التعليم وقتذاك والتي كانت بمثابة الأشغال الشاقة !!!
أم أرثي لحال هذا الجيل الذي يفتقد لبعض من جماليات الزمن الماضي !!!
أم لكل وقت آذانه ، ولكل دولة زمان ورجال !!!